ملخص المقال
شهر رمضان هو موسم محدود ليعود المسلم بعدها في أداء دوره الرسالي على نفس العهد، وبنفس الفهم للمنهج الرباني القرآني الذي استمد من أنواره طيلة الشهر
تصاعدَ ذكر الرأي والرأي الآخر في النقاش الفقهي بل وطال النقاش حول قضايا ومسائل متعددة في شهر رمضان؛ كرؤية الهلال بالوسائل المعاصرة، وتوحيد الأهلّة، والحقيقة في بعض المفطّرات كالبخور، واستخدام بعض أدوات العلاج، إضافةً إلى بعض الإشكاليات التي يتساءل عنها المسلمون في الغرب من طول فترة النهار، وغياب الشمس، وأمثال ذلك، وعلى قيمة البحث الفقهي في المسائل المختلفة، والنتيجة المأمولة المتناسقة مع نص الشريعة ومقاصدها العامة، وتماسك الأمة ووحدتها.
إلا أن ثمة مسائل أعمق وأكبر ينبغي التصدي لها، وإشغال الرأي الإسلامي بها؛ فشهر رمضان كان منذ فُرض على المسلمين موسمًا للبناء والتجديد، ونشر الحضارة، والمسارعة في خدمة الناس، والتسابق في مرضاة الله.. إنه شهر الانتصارات والفتوحات، وامتداد الخير إلى الآفاق بسرعة الريح المرسلة!
وفي شهر رمضان إعادة لترتيب أوراق الحياة، ومراجعة فاحصة ودقيقة لقدرة الإنسان على مواجهة النفس، ورسم مشروع الإصلاح.
إن إغلاق أبواب جهنم، وسلسلة الشياطين، وفتح أبواب الجنة، رسالةٌ واضحة ليواجه الإنسان ذاته، وفرصة ليتعرّف على ربه ويعوِّض ما فاته، والخطاب واضح (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر). وإذا لم ينجح في التصفية والتنقية والتعرُّض لنفحات الله فحينها (ويل لمن أدرك رمضان ثم لم يغفر له)!
وهو موسم محدود، ليعود المسلم بعدها في أداء دوره الرساليّ على نفس العهد، وبنفس الفهم للمنهج الرباني القرآني الذي استمدّ من أنواره طيلة الشهر، وبنفس الهمّة الماضية في العمل والجدّ والدفاع عن حياض المسلمين، كما في بدر وفتح مكة وما بعدها.
إن مدرسة شهر رمضان تجمع مدرستي القيام، قيام الليل وقيام النهار؛ ففي الليل يقوم لله بالصلاة والذكر ليرطب القلب، ويزيح الشوائب، ويقوِّي الأمل بالله {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1، 2]. وفي النهار يقوم لله بالعمل والجد؛ لينفع الأمة، ويصحح المسيرة، ويجدد البناء {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1، 2].
وفي تجاور سورتي القيام (المزمل، المدّثر) الزماني والمكاني عجبٌ وعظة، "فأما تجاورهما في الزمان فهو نزولهما متتابعتين أو متقاربتين ضمن أول ما نزل من القرآن الكريم، وأما تجاورهما المكاني فهو تتابعهما في ترتيب السور بالمصحف الشريف، مع أن كثيرًا من سور القرآن وآياته تتابعت عند النزول وتباعدت عند الترتيب"[1].
ففي الليل تربية وتزكية وترتيل وخشوع، وفي النهار دعوة وبلاغ، ومجاهدة ومكابدة. فأنا كمسلم أقرأ في سورة الحديد آيات ترقِّق القلب وتدمع العين {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. فأعاهد الله على التوبة والصدق، وأقرأ بعدها في نفس السورة: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]، فأدرك خطورة الغزو والتآمر على المسلمين من الغرب المدجَّج بالسلاح والعدة؛ لأستعدّ له بالعدّة المقابلة، بالحديد وآلية الحرب.
وهكذا هُمُ المسلمون في وعيهم ونضجهم ونجاحهم؛ فمحمد الفاتح ابن العشرين أعاد للمسلمين مجدهم لما وظّف قدراته الهندسية العسكرية في البر والبحر، وهو الذي قال يوم الفتح عندما سأل جنوده في صلاة الفجر: "لا يتقدمَنَّ بنا اليوم إلا رجلٌ لم تفته صلاة الفجر منذ بلغ" فلم يتقدم أحد إلا هو!
ولكننا حينما تخلفنا عن الركب وخالفنا المنهج، انقلبت علينا الدوائر، وجرت علينا السنن التي لا تحابي؛ فيومَ كان العثمانيون قد فاجئوا المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب (922هـ) بمدفعيتهم، إذ بهم بعد ثلاثة قرون أو أقل يقعون في الفخ نفسه، ليجدوا أنفسهم أمام مدفعيتهم العتيقة، وسلاحهم المتخلف، ونظمهم العسكرية البالية، قبالة تفوُّق بريطانيا وفرنسا وروسيا بسلاحها المتطوِّر، وقطعاتها البحرية المتقدمة.
إنه الدرس نفسه في التخلف عن قيام النهار، ولربما الليل معًا! إن رمضان فرصة عظيمة لتقرأ الأمة الإسلامية مستقبلها وهي تستوعب الدرس جيدًا، بعد أن امتلأ قلب أبنائها بكتاب ربِّهم، ودرسوا ما فيه[2]!
التعليقات
إرسال تعليقك